الفكـــاهـــة - بريس تطوان - أخبار تطوان

الفكـــاهـــة

 

الفكـــاهـــة

 

 

لو سألنا أكثر الناس عما يرونه في الهزل والفكاهة والتنكيت لوجدناهم على رأيين متناقضين في ذلك. فالبعض يثني عليها، والبعض الآخر يعتبرها مضيعة للوقت وقلة في الذوق ووقاحة وتطاولا على الآخرين.

 ويؤكد المدافعون عن الفكاهة بأنها مفيدة للعقل والبدن. ولهذا الدفاع تاريخ طويل يعود إلى أرسطو الذي رأى أن للمأساة أو التراجيديا فائدتها من حيث تطهير النفس بالشفقة والخوف، وأن للملهاة أو الكوميديا وظيفتها من حيث الكشف عن عيوب الإنسان.

ومن ثم تنبيهه إلى ضرورة تصحيح هذه العيوب. فعندما ننكت على البدين المترهل نوجه نظره إلى هذا العيب ومن ثم نحمله على تخفيف وزنه. ويغلب أن يكون السخر باعثا قويا على فعل الواجب ومراعاة اللياقة والوقوف على حد الكرامة. ألا ترى أن الناس يقولون لمن ينصحونه: افعل هذا لئلا يضحك الناس منك، فهم يدركون العلاقة بين الضحك والواجب.

 

وقد تأثر العلماء والأطباء العرب بهذا النهج ولاسيما بما كتبه أرسطو. وأكد  كل من الجاحظ وابن قتيبة على الدور المفيد للضحك واستشهد الجاحظ في كتاب البخلاء بقوله تعالى: “وانه هو اضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا”.[النجم:44] كدليل على الأهمية التي أعطاها الله عز وجل لعنصر الضحك في حياة العباد. ومما لاشك فيه أننا نشعر جميعا بالوظيفة الاجتماعية التي أعطيت لجل النوادر والطرف التي ملأت تراثنا العربي ودارت حول تلك الشخصيات الخالدة مثل أشعب وجحا وقرقوش. وما زلنا نعتاد على الاستشهاد بها في إعطاء الدروس والمواعظ أو تدعيم الحجة والمقولة.

 

ولما كان البخل من أزعج الصفات التي تثير في نفوسنا الامتعاض، فقد أصبحت هذه الصفة من الأهداف الرئيسية التي سدد عليها الهزليون سهامهم. ولا عجب أن يصبح كتاب البخلاء للجاحظ من أشهر كتب الأدب العربي. ومما يثير الضحك حكاية بخلاء خراسان الذين اتفقوا على الاشتراك في تحمل تكلفة شراء فانوس. وعندما رفض أحدهم دفع حصته دأبوا على شد عينيه طالما كان الفانوس مشتعلا ثم فتحها بعد أن يطفئوا الفانوس.

 

وفي فرنسا تناول نفس هذا الموضوع، موضوع البخل، الكاتب المسرحي الشهير موليير في مسرحيته “البخيل”. والواقع أن كل مسرحيات هذا الكاتب كتبت في إطار المدرسة الكلاسيكية وفلسفة أرسطو في هذا الشأن من حيث استعمال الكوميديا لإصلاح عيوب البشر. في مسرحية “مدرسة النساء”، يهاجم رذيلة الغيرة. وفي طرطوف يفضح الرياء الاجتماعي والتظاهر الكذاب بالفضيلة. ووصل موليير قمة إبداعه الفني في مسرحية “عدو المجتمع” التي جسمت مشكلة التزمت والتساهل في التعامل مع الناس وظروف الواقع الاجتماعي.

 

إذا كان موليير قد كرس مسرحه لآداء هذه الوظيفة الاجتماعية، أي لإضحاكنا وإثارة السخرية في نفوسنا من أجل كشف النواقص والرذائل التي يعاني منها المجتمع كما كان في القرن السابع عشر، فقد برز بعده الكاتب الإيرلندي جورج برناردشو، ليكمل ما بدأه موليير في استعمال الهزل والفكاهة لا في الكشف عن العيوب الاجتماعية فقط بل وفي الكشف عن العيوب السياسية أيضا. وظل برناردشو يركز على أن جوهر العمل المسرحي هو النزاع، أو التناقض. وأن وظيفة الكوميديا هي تحفيز الإنسان للتفكير في هذا التناقض تمهيدا لإصلاحه. ونجد مثالا لذلك في مسرحيته بيكماليون التي حولت فيما بعد إلى مسرحية موسيقية ثم رواية سينمائية ظريفة باسم “سيدتي الجميلة” وفيها أظهر برناردشو أن الفارق بين بائعة الورد البسيطة في كوفنت غاردن Covent Garden وأرقى سيدات المجتمع هو فارق ثقافي لا غير. وعندما تعلمت بائعة الورد التكلم باللهجة الأرستقراطية، زال الفارق ولم يعد باستطاعة أحد أن يميز بينها وبين غيرها.

 

وقد أمن رواد النهضة العربية الحديثة بنفس الاتجاه وأكدوا أهمية الفكاهة في الكشف عن العيوب وإصلاحها. وقبل كل ذلك ظهر في أواسط القرن التاسع عشر يعقوب صنوع الذي أسس أول فرقة مسرحية عربية لتقديم الكوميديا ثم أدخل فن الكاريكاتير في صحيفته الهزلية “أبو نظارة” للتعبير عن أفكاره الانتقادية.

 

بيد أن هذا الاعتقاد تعرض في الحقبة الأخيرة إلى كثير من النقد والتشكيك. لقد قيل أننا في الواقع لا نصلح عيوبنا لمجرد أن الآخرين ضحكوا عليها. البخيل منا يذهب إلى المسرح ويرى رواية البخيل ويضحك على نكاتها وتعليقاتها ثم يخرج من المسرح ويبدأ فورا بالمخانقة والمشاجرة مع سائق سيارة الأجرة على كل درهم يطلبه منه. وهكذا كتب الكاتب المسرحي الإنجليزي كرستوفر همبتون، وهو مترجم أعمال موليير إلى اللغة الإنجليزية، فأعرب عن شكوكه تماما في قدرة المسرح على تغيير أي شيء أو إصلاح أي عيب. وقال إن موليير نفسه لم يطمح لمثل هذه الرسالة ولم يؤمن بأن سخريته من المنافقين والبخلاء ستؤدي إلى إزالة النفاق أو البخل من المجتمع.

إنه كان يبرر عمله أمام المسؤولين لا أكثر ولا أقل. اهتمامه الأساسي كان في إخراج عمل فني وكوميديات ناجحة تثير أكثر ما يمكن من الضحك بأروع أسلوب أدبي ممكن. ووجد في مساوئ المجتمع من بخل أو نفاق أحسن وسيلة ينسج حولها عمله الفني.

والواقع أن موليير نفسه يعطينا في حياته المضطربة واللاأخلاقية أسوأ مثال على تعلم الإنسان الفضيلة من الكوميديا.

 

من الملاحظ في الحياة حولنا أن جل الكوميديين وكبار الساخرين والهزليين يعيشون حياة مضطربة ومعذبة بل فاشلة في كثير من الأحيان فإذا كان الواعظ الكوميدي لا يتعظ من نكاته، فلماذا ننتظر من الجمهور أن يتعظ منها؟.

وعلى هذا الأساس ظهر من المفكرين والفلاسفة من أمثال فرويد وسبنسر وآرثر كويسلر وغيرهم ممن رأوا ان مهمة الضحك ليست إصلاح العيوب وإنما التنفيس عن التأزم العاطفي. رأى سبنسر أن المواقف العصبية تؤدي إلى شحن الإنسان بطاقة كبيرة للتغلب على الأزمة وعندما ينفرج الموقف بشكل غير متوقع يحتاج الإنسان إلى تصريف هذه الطاقة الزائدة في شكل ضحك. مثال لذلك، إذا رأيت شبحا مخيفا قادما نحوك فإنك تتشنج وتتأهب لضربه بعصا، ولكنك عندما تكتشف أن الشبح هو جارك يحمل لك طبقا من الحلوى فإنك ترمي العصا من يدك وتنفجر بالضحك.

 

ومن هذه الزاوية يصبح الضحك أشبه بالبكاء، إنه وسيلة لا لإصلاح النفس وإنما للتنفيس عنها. ومن الملاحظ أن نفس المشهد العصيب الذي قد يبعث المرأة على البكاء يثير في زوجها الضحك. وبالطبع يدخل عندئذ الاثنان في مشادة. لك أن تنزعج وتبكي منها أو تضحك عليها. هذا خيار أتركه لكم.

أما أنا فخياري واضح.. أن أضحك وأضحك.

 

*-..*-..*-..*

والله الموفق

2016-09-27

محمد الشودري

Mohamed CHAUDRI

 

 

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.