"خصوصية المغرب واختصاصات الملك في احتواء الأزمات" - بريس تطوان - أخبار تطوان

“خصوصية المغرب واختصاصات الملك في احتواء الأزمات”

 
 

“خصوصية المغرب واختصاصات الملك  في احتواء الأزمات”
 
 
  أولا:التوصيف المجمل للاضطرابات والخلفيات
 
    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :”لا تخشوا من الفتن فإنها حصائد المنافقين”.
   هذه مقولة إن ثبتت عنه فقد تمثل نظرية علمية من أرقى النظريات في تحليل الفتن وإدارتها في الاتجاه المعاكس وسبر خلفياتها و ضوابطها وخيوط محركيها…
ففي زمن الفتنة قد تهرب الكلمات وتتأزم الحروف وتخبو الخطرات  فلا يزيد التعبير عما يحدث حينها إلا تدميرا للثقة والتواصل ،ولا يؤخذ النصح إلا بعين الريبة وسوء الظن والتخوين والتقاتل ولا يصدر عندها من التعبير ما هو أشد من القصف والتراشق بالنصال والتراجم بالحجارة وسوء المبادرة …” اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة “و”إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمهم بعذاب”.
   فما يجري الآن في البلدان العربية هو  عين الفتنة وجوهرها  ولب الأزمة ومركزها ،سواء تعلق الأمر بما يجري باليمن الذي قد كان بالأمس يوصف بالسعيد، أو بسورية الشام الموصوفة بقلعة الصمود والتحدي وذات المجد والتاريخ التليد ،أو بمصر أرض الكنانة وهازمة التتار العنيد، أو بليبيا بلد المقاومة ومنجبة عمر المختار الشهيد،ناهيك عما يتحرك ببطء قاتل ودفين في الجزائر من وقت بعيد ،وما قد يطفو من حين لآخر على ساحة المغرب العتيد والنافع والمنتفع من يوم الفتح على يد عقبة بن نافع حيث الأعراف والأصول لا تداس ولا تبيد.
فالمشهد واحد والمقصود  هم ،جميعهم ،بحرق نار خبيثة قد خطط لها بليل حالك والعرب ساهون لا هون أو مستهترون ساهرون بين قينة وكمان وطبل ومزمار ولكم في الأندلس أسوة سيئة يا عرب الدف والاجترار.
    كما أن المؤامرة هي المؤامرة بعينها والمتآمر هو نفسه بجلده ولحمه وأصله وفصله، حيث لا أصل له وإن كان له فصل ،كالفطر النابت في مزابل التاريخ والحضارات المنهارات.والغاية عنده واحدة هي الفتنة والتكسير والإضعاف بالتخريب والتخذيل ثم بعدها مرحلة التخير والتفضيل لطريدة قد لا تصلح إلا للتفصيل والتقسيم واستمراء طعمها :”ونفضل بعضها على بعض في الأكل”.
إذ كل بلد عربي إلا وهو مستهدف بالتقسيم من طرف الإمبريالية الصليبية والصهيونية العالمية والهيمنة الأمريكية قصد الاجتثاث والاستئصال تركيعا وإخضاعا وسلبا ونهبا وإهانة،وطمسا للهوية ومعالم الدين والتاريخ،وجعل الشعوب العربية التي كانت بالأمس القريب تتوهم الحرية وهي اليوم تنشد المزيد بإيعاز من سالبها بالأمس ،كاستعمار عسكري وطغيان مادي ،غير مدركة بأنها مقبلة على الوقوع في فخ العود إليه، والعود أسوأ وليس بأحمد في هذا المطب.مع العلم أن النكسة لم يمر عليها الحول فكرا ولا القرن دورة وزمانا ، وقبل أن تجف دماء الشهداء الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير هذه الأوطان التي ابتليت بما ابتليت به ،لا لسبب إلا لأنها عربية أولا ولأنها إسلامية ثانيا أو العكس عند الترتيب والتغليب.
      ولنركز في هذه العجالة على بلد المغرب الحبيب وطننا وقلعتنا ومنشؤنا ومهدنا ومحور وجودنا .  إذ حب الأوطان من الإيمان،ونحن نحب وطننا أولا ونحب الوطن العربي ثانيا ونحب أوطان المسلمين ثالثا كما قد نحب أوطان العالم رابعا.
 
   ثانيا: الدولة العلوية بالمغرب وركائز الصمود والاستمرارية
 
    ووطننا المغرب قد جمع بين وحدة الدين والدولة واللغة والتراب والإنسان،وبهذا فقد اكتملت فيه عناصر المواطنة من غير ارتياب، بالرغم مما قد يثيره بعض السفهاء من إشعال للنعرة العرقية واللغوية والإقليمية والجهوية لغاية الفتنة وتكسير الوحدة السليمة. ولكنهم مع هذا فقد لا يستطيعون اجتثاث الفرع من الأصل ولا تدمير الجذور ببعثرة البذور، بذور الشقاق والنفاق وتوهم الضحالة عند المجتمع والدولة .
    إذ الدولة المغربية وهي العلوية نسبا وتاريخا وسياسة ذات جذور عريقة في تاريخ المغرب وليست بدولة لقيطة أو طارئة أو حديثة مستحدثة على مستوى الدولة البدعية سياسيا،ومن هنا فإن عصبيتها جد قوية قد تجمع بين عصبية الدين والنسب والتاريخ والحضارة والأعراف ،بل عصبية التعود النفسي والتكيف مع مبدأ أن لا يتولى أمر هذا البلد إلا المتفرع من هذه السلالة وما أدراك بها من سلالة عريقة في النسب والمجد ومجال الدين ومفهوم آل البيت ! ،ومن ثم فهي ركن ينبغي أن يبقى معتبرا في صياغة الدساتير المغربية كحكم فعلي وليس شكليا ،لأنها ثمينة وشيه مفقودة في العالم نموذجا روحيا و ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
   وبهذا فالمغاربة الأحرار قد تجردت لديهم وتأكدت قناعة نفسية بأن النظام القائم هو  الذي ينبغي أن يستمر ويبقى بحسناته وسيئاته، مع السعي نحو الإصلاح الحثيث، وخاصة في زمن الفتن والاختلال العالمي والانفلات الأمني وخطر التقسيم والتشرذم.و”كيفما تكونوا يول عليكم “،لأن ما دخل يسيرا وعلى فترة زمنية طويلة لم يخرج إلا عسيرا وما توغل ببطء لا يمكن أن ينسل بسرعة وفي ساعة ،هذه قاعدة فيزيائية وكيميائية تنظر للتاريخ والسياسة وعمر الدولة الذي سبق وأن ابن خلدون قد حصره طبيعيا في مائة وعشرين سنة قياسا على عمر الفرد نفسه في أقصاه الطبيعي .
     لكن الدولة العلوية قد تجاوزت هذا العمر وتعرضت لكبوات أصعب وفتن أحلك و أوعر مما قد يهددها الآن، وإن كان التهديد هنا ليس سوى لعب أطفال ومؤامرات بائسين يائسين قد لا تتجاوز أوكارهم ولا تتمدد خارج حناجرهم ونواياهم السيئة،بل قد لا تعدى مداها موطئ أقدامهم.ومع ما مضى وما قد يحاك فقد صمدت وستصمد بإذن الله تعالى وتجددت وستتجدد وتواصلت وستتواصل ،لا لأنها قوية بنفسها أو غيرها من الدول والحلفاء ولكن لأن الله تعالى قد أراد لها البقاء والعزة إلى ما شاء :”قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وإليك المصير وأنت على كل  شيء قدير”.”تيارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير”.
    ففي الدولة العريقة وذات الجذور الدينية والنسبية قد توجد أغلبية غير منظورة في الساحة الغوغائية ومجالس الدهماء العامة وذات الجلبة بالتدافع والتصافع ،ومن ثم فقد تكون ذات أثر فعال في تحديد قوة عصبية الدولة النوعية والجوهرية ،وهي أغلبية قد لا توصف بالصامتة ولكنها قد تنعت بالصامدة والمرابطة ،ترى المؤامرات بأعين قلوبها وتنظر إلى الغايات بجهاز أرواحها فتوجه طاقتها نحو مصدر القوة والعون والقرار الحقيقي ومصدر التوازن في الكون والإنسان روحا وجسدا دولة وفردا .فتعتمد على قاعدة :لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،وتستنجد بمن إلى رحمته المفر ومن إليه يلجأ المضطر وب:اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج.
     فقد يحكى في التاريخ أن المعتصم بالله ،الخليفة العباسي العباسي، لما استعان بالجنود الأتراك، بسبب قرابة أمه وتأثيرها على قراره ، وحيث بدأ هؤلاء يثيرون الفتن والمشاكل في بغداد بسبب طغيان السلطة والقوة والاستبداد اعترض سبيله بعض المواطنين الصالحين ببغداد قائلين له :إما أن تردع عنا عساكرك أو سنحاربك ونقاومك .فقال :كيف تقاومونني ولدي من العساكر ما ترون وأنتم قلة لا تتجاوزن الأربعين رجلا أو هكذا عدد ! قالوا له :سنحاربك بسلاح الليل !.في الحين أدرك المعتصم خطر المنازلة وشدتها ،فقال لهم :أما هذه فلا طاقة لي بها.وسلاح الليل عندهم هو التضرع إلى الله واللجوء إليه عند البأس لجوء المضطر والمستضعف ،”فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم…”،وبعدها انسحب من بغداد هو وجنوده حيث اختط لنفسه عاصمة أو مدينة سر من رأى أي سامراء التاريخية والأثرية.
    إذن فالحاكم الفطن الذي قد يكون له وعي بهذه القوى في بلده ويعمل على التواصل معها وترك المجال لها للحراسة الليلية المكثفة والدقيقة المستنيرة بنور التقوى والإيمان قد يكون أقوى من أي حاكم آخر، مهما كان عدد جنوده وعتادهم وصواريخهم واستخباراتهم،لأن قيمة القوة قد توزن بالكيف لا بالكم وبالنوع لا بالعدد وبالنور المضيء  لا بالنار الحارقة وبالقلوب الموحدة لا بالأجساد الجامدة والمسندة.ومن ثم فقد لا يخشى الفتن لأنها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :حصائد المنافقين !!!
    وكيف هي حصائد المنافقين ؟.لأنهم حينما يشعرون وكأن الدولة قد بدأت تضعف عن السيطرة على الوضع وأنها في حالة إعياء سياسي بسبب الضغوط الخارجية المعادية والداخلية المتصاعدة والمتشابكة والمتحينة فقد تبدأ حينئذ الألسنة ترشح بالسب والنقد للملك والدولة والقيم بل قد تمس حتى الركائز الدينية المعتمدة لدى الدولة والمجتمع نفسه في تأسيس نظامه وعلاقاته وتشريعه، ظانين منهم بأن النظام قد انتهى أجله وولى عهده والمجتمع قد دخل مرحلة السيبة والفوضى، وبهذا فقد يقعون في المصيدة وستكون خرجاتهم في مصلحة المواطن والدولة والحاكم الإمام معا.وبهذا فسينكشف خبث نواياهم وسيتطاير شرر شرهم للعلن بعدما كان في ساحة التغرير مستبطنا ومختفيا على نموذ ج باطنية الدولة العباسية والمستظهري.
“فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير ” .
   فالانفلات الأمني وغياب هيبة السلطان عند الفتن هو مسحبة ومكشفةة للمنافقين عن حقيقة وجوههم وفي نفس مطهرة للصالحين والمواطنين الصادقين وتثبيت لهم  ،والناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،وخيارهم في اليسر والرخاء خيارهم في الشدة والمحن إذا وفوا واعتبروا التزاما بالعهد والبيعة ومراعاة للصالح العام في الأمن والاستقرار.
 
  ثالثا: الملك محمد السادس وسياسة الجمع بين المتجانس والمتعاكس 
 
   وملك المغرب سيدي محمد السادس المحبوب لدى شعبه قد جمع مواصفات الحاكم الرزين وتكاملت فيه معاني الهوية الوطنية ذات الثوابت الروحية الدينية والتاريخية ،كما أنه قد يعمل في صمت وصمود وتعامل ،مع الطائع والعاصي والصالح والطالح والمحب والمبغض على حد سواء، في ميزان المواطنة والرعاية والاهتمام. وهذا مسلك نوعي في السياسة والحكم قد جمع بين المتضادات والذي قد يبدو في ظاهره وسطحيته كأنه سلبي ا نوعا ما ولكنه ليس بذلك ،لأن السياسي المحنك هو الذي يستطيع أن يحول السلبي من وهم المساند والمؤيد إيجابيا في تصور المعارض ،وهذا قد يمكن إدراكه حين التعمق في الرؤية والغايات والأبعاد والتي قد يحتكم في توصيفها إلى المنطق المتعاكس والمتجانس في نفس الوقت،أو اللجوء إلى العلاج بالمضادات.إذ رب ضارة نافعة ومصائب قوم عند قوم فوائد وبضدها قد تتميز الأشياء .
     فالصلاح المطلق المثالي غير وارد في التاريخ والواقع والفساد المطلق كذلك والتدافع قائم، والميزان هو الاعتدال  والتوسط :”ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”.وقليل من السم ينفع كما يقول المثل العربي .
    فالفساد قد يكون مدعاة إلى الصلاح والصلاح مدعاة إلى الإصلاح والاستدراك ،لكن التخريب والتشغيب والمعاداة من أجل الشقاق والنفاق قد لا يثمر ولا يعمر :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
     فلا ينتظر من الملك أن يصلح الشعب مادام الشعب رافضا لأبسط قواعد الإصلاح وعلى رأسها أخلاق المواقف وأبجديات السياسة وطبيعة الحكم وهيبته وحرية القرار من غير تشغيب واستفزاز،كما أنه قد لا ينتظر من الشعب أن يصلح نفسه مادامت قطيعة بينه وبين الحاكم  أو أن هذا الأخير غير مكترث أو بواقعه وجوهر مطالبه بكل فئاته ،سواء كان صالحا أو فاسدا،وعلى رأس المطالب :وجود الأمن وضمان متطلبات صحة و العقل  البدن وتوفير السكن…
   وحيث أن الملك سيدي محمد السادس قد وضع في حسبانه وجود الصالح والطالح بين رعيته ولم يقمع أحد طرفي النقيض على حساب الطرف الآخر لمجرد أحولهما أو أفكارهما الخاصة والثابتة أو العارضة فلا بد وأن تؤدي هذه السياسة إلى جعل الصالح وسيلة ممكنة لإصلاح الطالح، وليس الفاسد بهذا المصطلح الجاف الذي يلغي كل أمل في العلاج ،لأن مصطلح المفسِد هو إجراء عملي  شخصي وعارض وليس جوهريا وحتميا، وطالما هو كذلك فهناك أمل بأن يصبح المفسِد صالحا ومصلحا بسبب حسن السياسة والتدبير وفتح الفرص للمراجعة والمحاسبة وإعادة التأهيل.كما أن هذه السياسة الحكيمة بهذه النية الحسنة قد تجعل يوما ما من كان طالحا في حكم المفسِد خير ناصح للملك وللأمة لأنه قد كان أدرى بدواليب الفساد وأسبابه وطرقه ،وبالتالي فسيكون أقدر على سد أبوابه بعد توبته وعودته إلى الصلاح والنصيحة:”كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم”.
   وهكذا فقد يحافظ الشعب على وحدته ولحمته واستقراره وحبه لملكه وولائه لوطنه من غير إقصاء ولا تهميش ولا ازدراء ولا تحقير،في حين فقد أطالب كثابت دستوري بأن تبقى للملك سلطة موسعة في اتخاذ القرار العام والمصيري للأمة وبسط الهيبة لإحداث التوازن والاستقرار.فوحدة القرار في يد الملك الصالح الناصح قد تكون حماية للوطن والمواطنين من الانجرار نحو تداعيات الفتن والفساد والأهواء ،ولا يصلح القدر بين طباخين كما يقول المثل.فالقرار السياسي ينبغي أن يبقى في يد واحدة أمينة هي يد الملك الناصح  ويد الله فوق جميع الأيدي ،وما الاستشارة إلا عنوان المشاركة السياسية وتثبيت الرأي الآخر والحكامة السليمة من غير إقصاء ولا استبداد.:”واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”والله ولي التوفيق. 

 
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة
المغرب
Benyaich_tetouan @yahoo .fr


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.