في نـــقدِ انفــــــصامٍ معاصر - بريس تطوان - أخبار تطوان

في نـــقدِ انفــــــصامٍ معاصر

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

في نـــقدِ انفــــــصامٍ معاصر.. !

 إذا كانت قارّة وسائل تكنولوجيا الاتصال الجديدة قد أفرزت لنا تحولاتٍ قيمية وهُوياتية جديدة، انولَدت فيها مَساقاتُ تحدّياتٍ ثقافية واجتماعية بين الأجيال؛ وتَـغَـيُّرات عَلَى مُستَـوى أنماط التَّواصل والتعارف والتثاقف؛ فإنها كذلك خَلَقَتْ لُــغَــةً وأدواتٍ وأنواعَ خطابٍ وأساليب (بلهْ؛ وشخصيات) لا تـعكس جوانب الواقع الحقيقية؛ إن لم تكن لا تَــمُتُّ للواقع المُتَـــعَــيَّـن بِصِلَة، ممَّا دفع بالبعض إلى الحديث عن “انبعاث” مسارٍ جديد من الأنْسَنَة.

في القلب مِن هذا المسار؛ يَـرى كُـلٌّ راصدٍ ومُتَتَبِّعٍ لفضاء التَّـواصل الاجْـتماعي الافتراضي ذلكم التّــبدُّل الاجتماعي المُثير لرُواد القارة الزرقاء _ وإن كانَ في الأصل تحوٌّلا عاديا في مسار التطوّر التاريخي وإفراز طبيعي لحركية التاريخ_ عن سِكّة ما دأبت عليه البشرية مِن اتخاذِ أنماطٍ مختلفة من أنماط المطالبة بالتغيير وصناعة ثقافة البطولة والمجد والصُّمود والتضحياتِ وتأدية الضرائب في سبيل تحقيق ما تصبو إليه على ظهر البسيطة؛ هذا التَّبدُّل (إن لم نقل الانحراف) الذي تشبَّـعت به دون سَابق تصميم وإرادة شرائح عريضة من شباب ومُراهِقي الأمّة حتى صار كأنما هو جُزء من “المِخيال الاجتماعي” عبر الفضاءات الافتراضية.

لنأخذ مثَالا للتقريب؛ بروز الثنائيات الضِّدّية بالمغرب؛ حيثُ نَـجد أنّ الخطاب الغالب داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية (الأسرة والمجتمع والمدرسة والجامعة)؛ هو: مُطالبة الجميع بالتغيير، التعطُّش للحرية، انتقاد الدولة العميقة، الرغبة في حياةٍ كريمة وعيشٍ برَفاه، مَقْــتُ رئيس جماعة مُستبِد، تأفُّفٌ من إعلامٍ منفصِلٍ عن نبض الشارع وقِيمِه وهُمومه، تشوُّفٌ إلى إعادة توزيع الثروة بشكل عادِل، مَطالِب بدَمقرطة المعرفة، رغبةٌ في الاستقرار دون فوضى أو دمار، ضجَرٌ عامٌّ من عَبَثية النظام البيداغوجي بالتعليم العالي، إنكارٌ لما يُمارَس في حقّ الشُّـعوب المظلومة من ظلم وتنكيل وتشريد؛ رفضٌ للكيان الصهيوني، نقمة حادّة على سياسات البيت الأبيض، نقدٌ لاذِع لقرارات الأمم المتّحدة بخصوص قضايا أمتنا العادلة، تنديدٌ بالإرهاب والتطرُّف، وأمور أخرى كثيرة؛ تَـكْـثُـرُ المُطالبَة بها، (هذا على مُستوى الاجتماع الواقِعي/المَساعِي الواقِعية)، وهي نفسُها المَطالِبُ المُطــالَـبُ بها على (مُستوى الاجتماع الافتراضي/المَساعي الافتراضية).  وعليه؛ فالمُطالبَة جارية، والبَحْث عمّن يتجاوب أو يتفاعل أو يُبادِر جارٍ كذلك ! 

مُـقْـتَضَى النقد (أو جانباً منه) عندنا هنا يَخْـتَـصُّ بِتِبيان مَظاهر هته التحوًّلات (ضمن هذا المُعطى) المُثيرة للغرابة، مظاهِر أفرزَتها مؤسسة التنشئة الاجتماعية الرابعة (الإنترنت ووسائل تكنولوجيا التواصل الأخرى المعاصرة)؛ حيثُ كَثُرَت بشكل وَرَمِي المواقف البطولية والدَّعوة لصناعة للتغيير، والمقاوَمة بالفَــسْبَــكَة، والتلحُّف بتعاليق تُبدِي لكَ من ظاهِرها أن كاتِبها هو الكواكِبي أو سَعد زغلول؛ لكن واقع الحال يجعلك تنْـصدِم من كَـوْن نفس أصحاب التعاليق هُم مِمّن يُديمون “القابِلية للاستِعباد” إذا ما انتَشَلْتهم من وراء شاشة الحواسيب وألقيتَ بهم في الساحات !!

  فالأب يريد حياةَ ومُستقبلاً كريمين له ولأبنائه؛ لكن إن طالبْتَــه بالخروج للتظاهر ضدّ سياسات العَبث بالمال العام، صاح إنّ ذاكَ منّي بعيدُ! 

وقاطِنةُ مدينةٍ ما يـــئنّون من فرط الغَلَبة والقهر الذي يُمارِسهما في حقها أحد وُلاة الملك أو رئيس الجماعة أو باشا أو قائد مقاطعة؛ وإذا ما طالبْـتَـهم بالانضمام إلى عريضة عامّة تدعو لإزالة هؤلاء؛ كان الهاجِس هو الخوف مِن الضرب أو الاعــــتقال أو الحِرمان من “لقمة عيش”!
والطلبة يُعانون من اختلال النظام الجامعي الجديد، وتدنِّي مُستوى التَّـحصيل العِلمي، وإرهاب بعض الأساتِذة عن طريق التقويم والتنقيط، وتفشِّي الفساد الإدارِي والأخلاقي الحادّ، وملفّات أخرى مما لا نستطيع احتمالَه؛ وإذا ما شَرَعْـتَ في التّعبئة والتأطير لأشكالٍ نضالية تستنكر وتهدف إلى إخراج قضايا الطلاب والجامعة إلى المجال العام؛ رأيتَ القومَ (الشباب للأسف) يصدُّون عنكَ صدوداً .. 
جامِعيون وأساتِذة وطلبة يشتكون من مظاهِر الإرهاب بالفضاءات الجامعية ويؤسسون لذلكَ تجمّعات فيسبوكية وصفحاتٍ افتراضية تُجرِّم أفعال بعض المكوِّنات الوحشية، ولكنّــهم (عَمَلياً) لا يستجيبون لدعوات فضح العصابات الإجرامية لدى السلطات والقضاء، أو المُشاركة في ندواتٍ أو التقدُّم بشكايات، ولا يتشجّعون على الانخراط في حملة توقيعاتٍ وطنية ومحلية على مُبادراتٍ مدنية وجامعية وطلابية مناهِضة للعنف ومُطالِبة بتطهير الجامعات من الكائنات الغريبة عن الجِسم الطلابي والحَرَم الجامِعي.

وهكذا؛ أمثلةٌ عديدةُ من واقِعنا الاجتماعي / الافتراضي السكيزوفريني تَدخُل بنا في متاهَةِ انفصام مُــعاصِر حادٍّ وصعب التّفسير، قد تُشكِّل للباحثين فُرصة ثمينة لتأسيس علم الاستغراب المُمكن في الأفق القريب. نعم؛ إنه  فِصامٌ وعُصابٌ جماعِيٌّ و “لا جورج طَرابيشي له !”

يا سادة؛ يا أعزّائي الناشِطين والوالِجين الافتراضيين، لا يتساوَى مَن “حـــرّضَ هنا” ؛ ومَن “فـــرّ” هناك ، لا يستوي مَن “ثــار” هُـنا ؛ و “جَبُنَ” هناك، لا يُـــعْقَل “الاحتجاج” هنا و”الانسحاب” هناك. لا يستقيم هذا الفِصام واللَّانْــسِجام، ولو تعذَّرتُم (بطبيعة المرحلة التاريخية) ومُــقتَضيات تحوّلات العوالم الافتراضية.
إنه لا معنى لحياةٍ حُرة، وعدالة اجتماعية قائمة، وتعليم شعبي ديمقراطي وراقِي، وإصلاح دائم واستقرار مُستمِر، وأمنٍ وأمان، بدونِ كُـتلة شبابية “مُؤطِّرة على جدران المجال الافتراضي” ، و”فاعِلة، قائدة، مُحرِّضة، منخرطة في قضايا الجماهير ورهانات التغيير ومُتَطلّبات الإصلاح، مُـستوعِبة لدورها في الحياة، على مُستوى جُدران المجال الواقِعي” !.. 

والله أعلم.

 

*عدنان بن صالح*
 
 
 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.