معــركـة الفقـــر والغنــى - بريس تطوان - أخبار تطوان

معــركـة الفقـــر والغنــى

 

معــركـة الفقـــر والغنــى 
جعلت لها الأقدار موعدا

فكان القرن التاسع عشر

من بين القرون

 

 لو اني سمعت أحدا من المؤرخين، المشهود لهم بالعلم الواسع، والنظر الثاقب، يقول: إن القرن التاسع عشر، هو أب القرون الحديثة جميعا في حياة البشر، لسارعت إلى التأمين على ما يقول.

 
إن حياة البشر معاش في الدنيا، وأمل يرجى في الآخرة. والآخرة أمل بعيد. والدنيا ثمر كثير قريب. وقد اصطرع الناس منذ دهور طويلة على ثمرات الأرض، فنالها الأطول ذراعا، والأقوى عضلا، والأعرض في الزحام كتفا. وظلت قوة الساعد هي غالبا السبيل إلى رَفَه الحياة، ومع الرفه الثراء إلى فوق حدود الاستكفاء، وفوقها كثيرا. وصار من صفة الناس الدائمة أن هؤلاء من أهل الفقر، وهؤلاء من أهل الغنى. وصار من حكمة الناس السائرة أن الرضا بالمقسوم خير، وأن القناعة راحة وسلام، ولم يكن في حكمة الناس أن التباين في الأقسام، والاختلاف في الأرزاق، لم يكن عن قضاء الله، ولكن عن تفريط العبد الفقير في حقوق له استبد بها الأنشط والأجرأ والأطمع والأطمح والأظلم من عباد الله.

 
وظل هذا الحال قائما عبر القرون لا يكاد يتغير منه شيء.

 
وجاءت الأديان تصلح. وأصلحت الكثير. ولكن أثرها لم يبق إلا الزمن القصير.

والله تعالى يقول في كتابه العزيز:”والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم”.[المعارج:24] وأسماه”حقا”. ويقول سبحانه:”وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”.[الحديد :7] وقال “مستخلفين” فيه ولم يقل انهم مالكوه، فهو مال الله، وهم عليه خلفاؤه.

 

واستمع الأقوام إلى كلام الله حينا، وسدوا عنه آذانهم ألف حين وحين.

 
وما إن مات النبي صلوات الله عليه، وخلفه أبو بكر رضي الله عنه، حتى كانت الردة، فارتد من المسلمين من ارتد. ومنهم من قبل أن يعود إلى الإسلام بشرط إسقاط الزكاة. والزكاة ما كانت إلا على القادرين.

 
واستمر هذا الصراع قائما بين الفقر والغنى طوال القرون، من قبل إسلام ومن بعد إسلام.

 
عجزت المقادير عن أن تغير من حظوظ الناس بالترغيب أحيانا، وبالإرهاب أحيانا، وبالنصيحة وبالوعظ. فهذه كلها وسائل كان أثرها لا يدوم طويلا.

 

كان على المقادير، لكي تغير من حظوظ الناس. أن تغير أوضاعهم، وأن تغير مراتبهم في مجتمعهم، والإستراتيجية بين الفقر والغنى، وجب أن تبدلها تبديلا.

 
كان مع الأغنياء العلم والمعرفة. ومع الفقراء الجهل.

 
وكان مع الأغنياء رجال الدين، في دنياهم، مؤيدين. وكان مع الفقراء رجال الدين، في آخرتهم، واعظين ومصبرين، وعندهم أن جزاء الصبر نعيم مقيم.

 وكان الفقراء، وأغلبهم فالح الأرض، في أرجاء أوربا مفرقين مشتتين، والتشتت ضعف، وكان الأغنياء متواصلين متجمعين، والتواصل والتجمع قوة.

 
ثم شاءت الأقدار لأوربا أن تدخل أطوارا من الحضارات أدت آخر الأمر إلى الخصومة الصريحة بين ذي مال وغير ذي مال. بين رجال لم يكونوا ليرثوا عن آبائهم إلا الجاه والقوة، وبين رجال لم يكونوا ليرثوا عن آبائهم إلا التعاسة والذلة.

 
نعم، إنها حضارة جديدة بدأت في تلك القارة الشمالية من الأرض، لم تكن كسائر الحضارات.

 
ونعم سبقتها حضارات عتيقة بعيدة، كحضارة مصر، وحضارة آشور وبابل، وتبعتها حضارة الإغريق فالرومان، فحضارة العرب والإسلام.

 
والحضارة الأوربية الجديدة لاشك استقت من حضارات سبقتها. واستقت خاصة من حضارة الإغريق والرومان، واستقت من حضارة العرب والإسلام، وليس في هذا ما يضع أو ما يرفع. ولكنها سارت في تنشئها مسيرة غير تلك المسيرات التي سارتها تلك الحضارات الأولى، ومن أجل هذا كانت النتائج غير تلك النتائج.

 

وكان من تلك النتائج، في آخر المطاف، تلك المعركة الصريحة التي قامت بين الفقر والغنى، هكذا وجها لوجه، ولأول مرة، وكانت فخرا للعدل الإنساني. وانتهت، أو نود أن تنتهي، لا بغلبة الفقراء على الأغنياء، ولا بغلبة الأغنياء على الفقراء، ولكن بالمصالحة التي يكون الناس فيها جميعا ذوي غنى ولو بمقدار.

 
ولقد كانت الحضارة العربية الإسلامية جديرة بأن تكون هي الحضارة الجديدة، تفتق الجديد اللازم لهذه العصور الجديدة، وذلك بكل ما تضمنته من حب للخير عظيم، ومن ديمقراطية هي في أصول حياتها وثيقة وفيرة. ولكن فاتها ما لم يفت أهل أوربا من ضرورة تحرير الفكر قبل التفكير في التخطيط والتدبير.

 
لقد أعطى الله العرب والمسلمين دينا سمحا، وآفاقا للرأي واسعة، وسعت الدنيا والآخرة. وأعطاهم من الرجال المتحررين، من مثل خليفة يقول لعامل له : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، ولكن قوما صار لهم الدين صناعة، وما جاز الدين الإسلامي أن يكون صناعة لأحد، عمدوا بحكم الصنعة إلى تضييق السبل وتعسير السير فيها، وإلى المبالغة في الحذر حتى سدوا على الناس أبواب الفكر، وجعلوا الفلسفة بابا كتبوا عليه : “ممنوع الدخول”، زيادة في الخشية حينا، وجهلا بالفلسفة أحيانا، ولو علموا أن الفلسفة كالفكر، قد تؤدي إلى الإيمان كما قد تؤدي إلى الكفر، لما ألحوا وثابروا على تحريمها. هذا في حين أنك لن تجد دينا كرم الفكر ومجد العقل، كما كرمه ومجده الإسلام. والجدل في الإسلام أساس الإيمان.

 

على كل حال سار العرب والمسلمون مسيرة على نحو أفقدهم فرصة من فرص الحياة كبرى، تلك إبداع حضارة جديدة باهرة كالتي نشهدها اليوم، سداها العلم، ولحمتها التقنية، وهدفت آخر الأمر أو تريد أن تهدف، لا إلى إفقار الغني، ولكن إلى إغناء الفقير، وإلى مقاربة ما بين الحظوظ حتى لا يقف العملاق إلى جانب القزم، ولا تقف ناطحة السحاب إلى جانب الكوخ، ولا يختلط صوت المتعة المرحة الزائدة بصوت الألم الزائد في الناس.

 

ونحن إلى اليوم لم نصل بالحكم إلى خير حكم. ولم نصل بالفقر إلى زوال فقر. ولكنا وصلنا في الأمرين إلى خير مما كنا فيه، وما زلنا في محنة التجربة. وما أشدها محنة.
*/-/*/-/*/-

والله الموفق

2014-09-27

محمد الشودري

 

 

 
 

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.