الأفكــــار قــــوة - بريس تطوان - أخبار تطوان

الأفكــــار قــــوة

الأفكــــار قــــوة
 

 

 
 إن الفكر هو الذي يقود العالم. إنه القوة الحقيقية التي تقرر مصائر الشعوب والأمم وتحدد لها أهدافها وترسم لها معاركها. فليس من شيء أغلى من الطاقة الفكرية في الأمة، ولا أعظم من نفحات العقل وهمسات القريحة ووثبات الرأي. وإن أهم ما يصبو إليه الظالمون والطغاة وأعداء الإنسانية هو إبادة أصحاب القرائح والعبقريات، لأنها تزيل من طريقهم قوى الفكر التي تخيفهم. إنه ما من إصلاح تم أو تقدم حصل، وما من نهضة تحققت أو رسالة انتشرت، إلا بدأت خاطرة راودت الأذهان، أو أملاً جاش في الصدور، أو مثلا أعلى توجهت إليه الهمم وتعلقت به النفوس، أي بدأت فكرة تغذى بها صاحبها أولا، ثم أصبحت غذاء للآخرين، ومركزا للإشعاع منه ينطلق التاريخ. وذلك ينطبق بالطبع على آثار صاحب الفكرة من كتب ومؤلفات، لأنها شعلة منه وجزء من كيانه، فيها جوهر وجوده. وأنت تحس حين تقرأها بنفحة من نفحاته. فليت شعري، ألاَمَ يصير العالم لو أطاح الزمان بمكتباته؟ يخيل إلي أن الإنسانية لو حرمت من مكتباتها لحرمت من وسائل حياتها، ومبرر وجودها، فكل مكتبة إنما هي مجموعة من وسائل ومناهج وأسباب للحياة.

 
والأفكار تتمتع بقوة ذاتية هائلة لا حدود لها. إنها لا تخنقها المقاومة ولا ترديها الخصومة، بل إنها لتستكين تحت الضغط زمنا ما ثم لا تلبث أن تنفجر. إنها تفعل فعلها ببطء دائما، صديقة كانت أم عدوة. ولئن عارضها فريق وحمل عليها آخر، فإن هذا لا يحول دون تأثيرها في أصدقائها وفي أعدائها، بل وفي أشد الناس هجوما عليها. وهنا مصدر قوتها : فهي تدخل الآذان بلا استئذان، وكثيرا ما نفذت إلى خصومها عن غير قصد، وعلى الرغم منهم. فالأفكار لا تؤخذ عن وعي دائما، وإنما هي تحيا غالبا في ضمير الناس لا شعوريا وتنتشر عن هذا الطريق. وفي سيرها تحارب أحيانا، ولكنها لا تقهر إلا بأسلحة من نوعها، أي بأفكار أقوى منها. إنها عندما تدخل العقول وتستولي على النفوس تدفع إلى العمل والكفاح وتحرك الهمم وتسير الجماهير، وتدفع الناس إلى التضحية والبذل والفداء. إنها في هذه الحال أشد قوة وحيوية في الواقع، لأن الواقع كثيرا ما يمثل الماضي المتهرئ بينما تكون الفكرة في دماغ العظيم منفذا للمستقبل.

 

 
هكذا الأفكار تغزو. وغزوها أشد فتكا من الدبابات وأبعد مدى من المدافع، لأنها تدخل الآذان بلا استئذان كما قلنا، وتخترق الحدود والسدود، وتفرض على الأشخاص والمجتمعات حصارا غير مرئي، أقوى وأقسى من الحصار العسكري والاقتصادي. والفرد عندما تغزوه فكرة جديدة لها بريق، فإن ثورة حقيقية تنشب في رأسه، ولا مفر له حينئذ من أن يتطلع إلى آفاق جديدة، ويهيم بقيم وأهداف ومثل عليا جديدة لا عهد له بها من قبل. فإذا به بين عشية وضحاها يغير ولاءه، ويحدث تبديلا شاملا في علاقاته الشخصية والاجتماعية والسياسية، ويصبح شخصا آخر غير ما كانه بالأمس. ويتضح ذلك جليا في الأخوين، نشآ في بيت واحد وتلقيا تربية واحدة، فانتمى أحدهما إلى حزب، وانتمى الثاني إلى حزب آخر، فأصبحت تفصل بينهما أبعاد شاسعة وحدود غير مرئية، وأصبح الالتقاء صعبا والتفاهم دونه خـَرْط القتاد.

 

 

والأفكار كما قلنا لا تعترف بالحدود والسدود، بل تتعداها لأنها بطبيعتها عالمية جامعة. فهي لا تحبس داخل الحدود الجغرافية والسياسية، ولا تختص بها أمة دون أخرى، وإنما هي تنتشر وتستمر فتفرض سلطانها على بني الإنسان بقدر ما بها من طاقة حيوية، وقدرة بنائية، وقابلية عمرانية وحكمة أخلاقية. لاسيما في هذا العصر الذي أصبحت حياة الإنسان فيه عالمية إلى أبعد الحدود بفضل العلم وتشابك المصالح بين جميع الأسر البشرية، وبالتالي بفضل المواصلات وجميع وسائل الإعلام التي ألغت المسافات والحدود بين القارات والأقطار. ولذلك فإن العلم في نظري سائر في طريق توحيد الإنسانية لا محالة. فلقد مضى عهد العزلة، وذهبت الأيام التي كانت الحدود فيها تفصل بين الأمم والشعوب. واشتدت الحاجة في كل بلد إلى أن يدير البصر حوله ليعلم من أين تجيئه التيارات التي تؤثر فيه، وكيف تغزو الأفكار والآراء والعقائد، وكيف تنتشر..

 

 

والأفكار لا يمكن فرضها من الخارج بل هي التي تفرض نفسها بحسب ما بها من جذوة وحيوية وقابلية للنمو والانتشار، وقدرة على التجاوب مع مقتضيات الزمان والمكان. فلئن حاول أحد الفاتحين أو المصلحين أن يفرض نوعا معينا من الأفكار على مجتمع ما بالضغط أو بأي شكل من أشكال القوة فهي تدوم ما دامت القوة التي تحميها. ولكنها سرعان ما تزول عند زوال هذه القوة، وذلك لأنها مصطنعة لا جذور لها. والسبيل الوحيد لبقائها إنما هو أن تتفاعل مع البلد الأصلي تفاعلا حرا كريما لا اصطناع فيه ولا افتعال. فالأفكار أشد ما تنفر من القوة، وأكثر ما تعشق الحرية !

ويبدو أن الأفكار التي تغزو الشخص هي على درجات، فهناك ما يختص بالشخص نفسه، أي ما هو في مقومات كل فرد على حدة وهناك ما هو في مقومات الأمة، وهناك ما هو في مقومات الفكر الإنساني كفكر. فأسهل الأفكار نفاذا ما هو في مقومات الفكر عامة كالعلوم – فعدواها أسهل أنواع العدوى، لأنها قدر مشترك بين الناس جميعا على اختلاف أجناسهم وحضاراتهم، وهي لا تتأثر بطبيعة واضعيها ولا تتغير بتغير روح الحضارة التي نشأت ونمت فيها، لأنها خاضعة للطبيعة الخارجية لا للطبيعة الذاتية – وأضعف الأفكار نفاذا ما هو من مقومات كل فرد على حدة، كالأفكار التي تمثل نزعات شخصية عميقة الجذور، فعدواها أصعب أنواع العدوى. فكأن هناك ما يشبه أن يكون أغشية ولفائف للإنسان: فهناك الغشاء الخارجي، وهذا أسهل الأغشية نفاذا. وكلما ازداد الغشاء عمقا صعب النفاذ إليه.

والخلاصة أن كل إنسان يتأثر بالغزو على طريقته الخاصة. وهناك عوامل كثيرة تجعله يتأثر على نحو دون آخر. فهو يأخذ الأفكار ويتفاعل معها ولا يمكن أن يكون موقفه منها سلبيا بكل معنى الكلمة، بل إنه ليمنحها كثيرا من شخصيته ويكيفها لأحواله. هذه هي طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان.

 

 

*-**-*-**-*-**

 
والله الموفق

2014-09-16

محمد الشودري

 

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.