حُلُولُ تَطْوِيرِ المجَالِ الصُّحُفِيِّ بِالمَغْرِبِ
وُجُوبُ التَّفْكِيرِ فِي اسْتْرَاتِيجِيَّةٍ تُبْنَى مِنَ الْقَاعِدَةِ
البعض يرى أن الصحافة فن، والراغب في العمل فيهـا لا بد أن يكون موهوباً، وأن الصحفي يولد وفي يده القلم، وفي رأسه الفكرة – على حد تعبير بعضهم – بينما يؤكد آخرون أن الصحافة مهنة، كسائر المهن في المجتمع، تحتاج إلى استعداد طبيعي، ولكنها كأي مهنة، لها مكونات ثلاثة هي: المعارف والمهارات والقيم التي يمكن اكتسابها وتطويرها تعليماً وتدريباً.
ناشر النيويورك “ورلد” ورئيس تحريرها، في أوائل القرن العشرين، يقول أن “كل ذكاء في حاجة إلى من يتعهده، حتى لو سلمنا بأن الإستعدادات الطبيعية هي مفتاح النجاح في جميع ميادين النشاط الإنساني، وأن الصفات الخلقية ـ وهي لازمة للصحفي الناجح ـ تنمو بالعلم والتجربة”. إذن لا يمكننا الحديث عن صحفي مهني يعرف قدر عمله بشكل احترافي فقط انطلاقا من موهبته وميوله، لذلك كان التكوين أساس إتقان كل عمل مهما كان سهلا أو صعبا.
ويشير “بوليتزر” قائلاً: “لا يكفي أن يكون صحفي الغد متعلماً تعليماً جامعياً عاماً، بل لا بد من إعداده لمهنته الجديدة إعداداً خاصاً”، وهذا القول يخدم أيضا الطرح الآنف.
وهذا ما جعلنا نطرح على أنفسنا إشكالا تكرر في عدة محطات ولم يلق جوابا في المغرب عكس الدول الأخرى المتقدمة: هل يصح أن تُترك هذه المهنة ذات المسؤوليات الكبيرة تُمارس من دون أي تأهيل منتظم؟
على ضوء التأطير السابق، ومن خلال مجموعة من أقوال أصحاب الإختصاص ونوابغ المجال، ومن خلال تلكم الأسئلة التي تراودت إلى أذهانهم، سنعمل على الإجابة عن إشكالين أساسين كل نضمنه في فقرته، الأول وهو تساؤل عن الإكراهات والعراقيل التي تواجه الصحافي، والثاني إشكال استشرافي يعرض إلى رهانات العمل الصحفي وكيفية تطويره بالمغرب.
الإكراهات والعراقيل التي تواجه الصحافي:
باعتبار أن الصحافة هي مرآة تعكس أوضاع المجتمع المغربي وتقرب كل الأنشطة التي تقوم بها الدولة من أشخاص معنويين وطبيعيين للرأي العام، فإنه من البديهي أن يصطدم الصحفي خلال أداء عمله بعدة عراقيل وصعوبات، ولعل هذا السبب ما جعل الوسط الإعلامي يطلق على الصحافة لقب “مهنة المتاعب”.
بيد أن هذه المتاعب لدى الصحفي المغربي لا تتجلى فقط فيما سبق ذكره – أي من منطلق احتكاكه بشخصيات ومؤسسات عمومية والتي قد تحجب عنه المعلومة – وإنما أيضا في كيفية قيامه بمهامه المهنية نظرا لعدة معطيات، لعل أبرزها ضعف التكوين وعدم فهم المهنة ببعدها النبيل والراقي.
يتعرض الصحلفي لحجب المعلومة الكبيرة، والتي يطلق عليها لدى صناع الرأي العام ومتتبعيه باسم “BIG DATA”، مما يجعل الصحافي في كثير من الأحيان ينهج دروبا غير مشروعة في استقاء المعلومة ونقلها إلى الجمهور، وهذا المعطى ما ينفك يذوب حاليا نظرا لمشروع قانون الحق في الحصول على المعلومة الذي يقطن قبة البرلمان وربما يرى النور قريبا، وبالتالي ستنتفي ظاهرة حجب المعلومة بانتفاء شروط تكوينها.
من جانب آخر، فإن ثقافة الخبر عند المغاربة أخذت تعريفا خطيرا بعيدا عن الواقعية والموضوعية، وذلك كون أن الخبر “إن لم يُدخل صاحبه السجن” على حد تعبير الكثير منهم لا يعد خبرا، وهذا ما يجعل الصحافي ملزما بتقصي أخبار والنبش في ملفات قد تمس من بعيد أو قريب بالخطوط الحمر المسطرة، وبالتالي يقع في المحظور ومنه إلى المتابعة.
كما أن المؤسسات الصحفية تنهج أسلوب السرعة والدقة في جمع الأخبار لتقديمها يوم غد للقراء طرية تتسم بالجدة، وهذا ما يضفي تعبا أكبر على العاملين بالمؤسسة خوفا من فقدان مناصبهم، إذ أن مهنة الصحافة هي “مهنة من لا مهنة له”، وللأسف هذا المنطق ترسخ فعلا في المجتمع، حيث أن المؤسسة الصحفية لا تعدو أن تنتقي شبابا كتابا لتخضعهم لتكوين بسيط، إضافة إلى تكليفهم بأعمال صغرى يصقلون فيها خبرتهم، ثم يصبحون من أعلام الصحافة بالمغرب.
وذلك ما عايناه نحن الطلبة الباحثين بماستر القانون ووسائل الإعلام، حيث قمنا في حصة رفقة الأستاذ “العلالي” – أستاذ بالمعهد العالي للصحافة – بتحليل الكثير من مقالات جريدة “المساء” المغربية الشهيرة، لنقف على عدة أخطاء واختلالات في مجال التحرير الصحفي من لدن صحافيين شهد لهم بالتجربة والحنكة.
كيفية تطوير العمل الصحفي بالمغرب:
سأحاول أن أأصل للمسألة بشكل علمي يحترم فيه المنطق وذلك من منطلق عبارة “التصور أساس التصرف”.
عندما نتكلم عن تطوير مجال ما، فإننا بصدد الحديث عن المستقبل، ومعرفة آفاق المستقبل ضرب من المستحيل، بل حتى الإسلام أمرنا أن نأخذ نيات الناس بالحسنى وأن لا نحكم على تصرفاتهم إلا بعد أن يتبين الرشد من الغي، إلا في حالة المستقبل، فقد قال ربنا جل وعلا: {وأعدوا لهم العدة ورباط الخيل}، إذ أن المستقبل لا يعرف كنهه أحد، ومنه أستحضر في هذا المقال مفهوم الإستراتيجية.
الإستراتيجية علم من أعقد العلوم الإنسانية، ولتطوير قطاع الصحافة لا بد من استراتيجية تستشرف الواقع وتربطه بظروف التطوير لتخلص إلى شكل المستقبل في بعده المحدود لا المطلق، حيث أن المخطط الإستراتيجي يخطط فقط، وباقي العمل هو للعاملين – أي المهنيين والمعنيين بمجال الصحافة – وعلى هذه الإستراتيجية أن تتسم ببعد المدى، وذلك انطلاقا من الصفر، ونعني هنا مرحلة التكوين الأولي. على المنظومة التربوية في التعليم الإبتدائي أن تلقن التلاميذ فن الصحافة في شكله الطفولي، إذ أن الصحافة جزء من طبيعتنا وأساسها نقل الأخبار، فاستغلال هذا المعطى الغريزي سيكون له شأن في تقنين هذا العمل منذ الصغر لدى التلاميذ، وبالتالي وبشكل أكيد سيكتسب عدة تلاميذ من هؤلاء ميولا كبيرا لمهنة الصحافة.
على المستوى الإعدادي والثانوي، وكما توجد شعبة اللغة العربية والعلوم الشرعية والعلوم الرياضية يجب أن نتوفر على سلك الإعلام منذ البداية التعليمية، حيث ينقسم السلك إلى العمل الصحفي المكتوب، العمل الإذاعي، العمل التلفزيوني والإلكتروني…
ثم من البديهي بعد المرحلة السابقة أن يتم تهييء جامعات ومدارس عليا متخصصة في الإعلام بكل فروعه وألوانه، حتى يمكننا القول أننا نملك مهنيين متخصصين فعلا، آنذاك سنرى التنوع في الإذاعات على مستوى البرامج والتحقيقات والحوارات والروبورطاجات والتقريرات، ونفس الأمر في التلفاز وعلى ورقة الجريدة وعلى شاشة الحاسوب، كل الأعمال الإبداعية تنبع من التخصص ولا شيء غير التخصص.
العمل الصحافي بالمغرب إضافة إلى ما سبق يحتاج إلى مقاربات عدة لتخليصه من هذا التشرذم الذي يعيشه، بدءا من سنده القانوني وتأطيره العقابي في حالة المخالفات إلى غاية كيفية كتابة خبر أو فصل التعليق عن الخبر.
كل هذا لا يمكن أن يأتي إلا وفق استراتيجية شاملة يضعها مخططون استراتيجيون يعملون بإحدى مراكز الدراسات والبحوث لدولة ما، لكن على المخطط أن يكون مغربي، فإن مسألة التخطيط تنبع من حب الوطن وحب مصلحته العليا.
احترام مبدأ التخصص في الكتابات الصحفية شيء مهم جدا، إذ أن المجتمع المثقف لم يعد يقبل آراء أو مبادئ من لدن غير المتخصصين في المجال المتحدث فيه، إذ كيف يعقل أنني كشخص مثقف سأقبل تحليل حكم وارد في آية معينة قام باستنباطه “داعية”؟ أو “مفسر”؟ بطبيعة الحال سأقبله لو كان الإستنباط قادما من “فقيه” وتلك مهمته عكس الأخريان اللذان يضطلعان بمهام أخرى.
كذلك بالنسبة للصحافي، لا يمكنني أن أقبل رأيا سياسيا لصحافي مكثت 10 سنين مثلا اتابع عموده في المجال الإقتصادي وتحليلاته الإقتصادية المنطقية، فكيف أقبل طرحه السياسي؟
في مقابل ذلك، هذا لا يمنع من أن يكون الصحافي ملما بشتى فروع الأنشطة الإنسانية حتى يستفيد منها ويوظفها في مقالاته بشكل أو بآخر، ففي نهاية المطاف فإن السياسة ترتبط بالإقتصاد… لكن نقصد بالتخصص ومراعاته هو ذلك الجانب الذي يظهر للجمهور، إذ أنه يحب القراءة في مجال التخصص لأخصائي حتى يتقبل الفكرة ويساير الطرح المطروح في المقال.
في النهاية لعل هذا الماستر أذاب العديد من الصعوبات التي أدرجتها من قبل، ومن أهمها إلمام الصحافي بما هو قانوني أيضا، حتى يعرف حدوده ويعرف كيف يتملص من المتابعة بشكل ذكي يجعله مع ذلك أداة ضاغطة على السلطة دون أن يظهر السوء ويقع في مظنة التأويل… وهذا هو الصحافي المحنكـ الذي يستطيع التأثير دون أن يتأثر بالمحيط المُأَثَّرِ فيه.
بقلم: نــور أوعــلــي
طالب باحث بماستر القانون ووسائل الإعلام بتطوان